وضع داكن
24-11-2024
Logo
سيرة التابعين : 11 - التابعي عامر بن شراحبيل المعروف بالشعبي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

ما هي الميزات التي كان يتمتع بها عامر بن شراحبيل الشعبي ؟

 أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس الحادي عشر من دروس سير التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، والتابعيُّ اليوم عامر بن شراحبيل المعروف بالشَعبي .
 كان واسع العلم، عظيم الحلم، وإنه من الإسلام بمكان .
 أيها الأخوة, ننطلق في هذه السيَر من قول النبي عليه الصلاة والسلام:

((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ, تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ, وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح عن أبي هريرة]

 كلام النبي لا ينطق عن الهوى، فأصحابه من القرن الأول، والتابعين، وتابعي التابعين، هؤلاء خِيرةُ خلق الله عزَّ وجل، لذلك فالاقتداء بهديهم, وبسيرتهم، والوقوف عند بطولاتهم، وشمائلهم جزءٌ من الدين، أي إنك إذا رأيتَ ديناً نظرياً فعُدْ إلى الكتاب والسُنَّة، وإنْ أردتَ ديناً عملياً فتقدَّم بقراءة سير الصحابة والتابعين .

أين ولد الشعبي, وبماذا كان يتميز جسده أثناء الولادة, ولماذا كان يطوف المدينة من حين

 أيها الأخوة, فلستِّ سنواتٍ خَلَتْ مِن خلافة الفاروق رضوان الله عليه، وُلِد للمسلمين مولودٌ نحيل الجسم، ضئيل الجِرم .
 من حكمة الله عزَّ وجل: أن الأبطال متفاوتون في أجسامهم، ترى بطلاً ضخماً عملاقاً، وترى بطلاً نحيلاً رقيقاً، وترى بطلاً وسيم الطلعة، وترى بطلاً غير وسيم الطلعة، ترى رجلاً مربوعاً، وآخر قصيراً، ورجلاً أبيض، وآخر غير أبيض، فالبطولة لا علاقة لها بالشكل إطلاقاً، هذه حقيقة، أنت كرجل كل قيمتك تنبع من مبادئك، وعلمك، وأخلاقك .
 لذلك يُروى عن بعض التابعين أنه كان قصير القامة، أسمر اللون، مائل الذقن، ناتئ الوجنتين، غائر العينين، ليس شيءٌ من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب, وكان مع ذلك سيد قومه، إنْ غضِبَ غضِب لغضبته مائة ألف سيف، لا يسألونه فيما غضب, فالإنسان يحقِّق أعلى درجات البطولة في أي شكلٍ كان، وقد قال الشاعر:

جمال الجسمِ مع قُبْحِ النفُــ  ـوس كقنْديلٍ على قَبرٍ المَجُوس

 لكن الإنسان إذا آتاه الله عزَّ وجل شكلاً مقبولاً, فهذا من نعمة عزَّ وجل، فالنبي علَّمنا إذا نظر في المرآة, يقول:

((اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي))

[أخرجه أحمد في مسنده عن ابن مسعود]

 لماذا كان هذا التابعي نحيل الجسم، ضئيل الجرم؟ قيل: لأن أخاه زاحمه على رحم أمه، فلم يَدَعْ له مجالاً للنمو، إذاً: هو شقيق ـ أي توأم ـ لكنه لم يستطع بعد ذلك أن يزاحمه، لا هو ولا غيره؛ في مجالات العلم، والحلم، والحفظ، والفهم، والعبقريَّة .
 بصراحة أقلُّ شيء عندك شكلك، وأقلّ شيء تملكه العمُرُ الزمني، لأنّ العمر لا يقاس بمدَّته، بل يقاس بأعماله البطولية، والإنسان لا يقاس بشكله، بل يقاس بإيمانه وخُلُقه .
 مرة أحد الصحابة يبدو أنه وقف في مَهَبِّ رياح شديد, فرفعت ثوبَه، فبدت دقَّة ساقيه، فتبسَّم الصحابة الكرام، فقال عليه الصلاة والسلام:

((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ, مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ, فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ))

[أخرجه أحمد في مسنده عن أبي مسعود]

 فالإنسان إذا كان نحيفَ البُنية، قصيرَ القامة، أسمرَ اللون، هذه أشياء لا تقدِّم ولا تؤخِّر، ولا يُعنى بها إلا النساء، لذلك فمجتمع الرجال مجتمعٌ الإيمان والعمل .
 بالمناسبة: من هو حِبُّ رسول الله؟ إنّه سيدنا أسامة، كان أسود اللون، أفطسَ الأنف، عيَّنه قائد جيش، وهو في السابعة عشر من عمره، على جيشٍ فيه؛ أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، أرأيت الإسلام؟ هذا الدين .
 ذلكم هو عامر بن شراحبيل الحِمْيَرِيّ المعروف بالشعبي، نابغة المسلمين في عصره, وفائدة القراءة عن التابعين وسيرهم؛ أنّ هذه الأسماء ترِدُ كثيراً في كتب الدين، وفي كتب الحديث، وفي كتب السيرة، وفي كتب الفقه، وهذه الأسماء كلُّها أعلام .
 وُلد الشعبي في الكوفة، وفيها نشأ، لكن المدينة المنورة كانت مهوى فؤاده، ومطمح نفسه، كان يؤمُّها من حينٍ لآخر ليلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وليأخذ عنهم، كما كان الصحابة الكرام يؤمّون الكوفة ليتخذوها منطلقاً للجهاد في سبيل الله، أو داراً لإقامتهم ، إذاً: إذاً هؤلاء تعلَّموا، فعليهم أن يجاهدوا، وأولئك عليهم أن يتعلَّموا .

كم صحابي التقى به الشعبي, وعمن كان يروي, وبماذا كان متولعاً, وما هي القدرة العقلية التي كان يتميز

 أُتيح لهذا التابعي الجليل أن يلقى نحواً من خمسمائةٍ من الصحابة الكرام، وأن يروي عند عددٍ كبير من جلتهم .
 الحقيقة: ليس في الأرض متعةٌ أعظم من أن تجلس إلى عالم تُذاكره في العلم، لأن العلم حياة الإنسان، والعلم حياة القلب، وهو الذي يناسب شأن الإنسان، وغير العلم يناسب ما دون الإنسان .
 يروي هذا التابعي عن عددٍ كبير من أصحاب النبي، من أمثال علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقَّاص، وزيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وأُبيّ، وأبِي موسى الأشعري، وأبي سعيد الخدري، والنعمان بن البشير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبَّاس، وعدي بن حاتم، وأبي هريرة، وعائشة أم المؤمنين، وغيرهم، وغيرهم .
 أما عائشة: فكما قال الله عزَّ وجل:

﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾

[سورة الأحزاب الآية: 53]

 وقد كان الشعبي فتىً متوقِّد الذكاء، يقظَ الفؤاد، مرهفَ الذهن، دقيقَ الفهم، آيةً في قوة الحافظة والذاكرة، ولي هنا وقفة:
 إنّ الله عزَّ وجل يعطي إنساناً هذه القدرات العقليَّة العالية، ويحرم منها آخرين، فقد يقول قائل: ما ذنب الذي حُرم هذه القدرات؟ هناك إجابات كثيرة، منها أنّ الإنسان يُعطَى من القدرات على قدر مطالبه، فكلَّما ارتفعت مطالبُه, واتسعت، وسمت, وكبُر حجمها, قدَّر الله له من الملكات والقُدرات ما يوازي هذه المطالب العالية .
 نحن في مجتمع البشر، إذا كلَّفتَ الإنسان بمهمة كبيرة، تعطيه صلاحيات كبيرة، وإذا كلَّفته بعقد صفقةٍ لإطعام الجيش تعطيه اعتمادًا بمائة مليون، فكلَّما كلَّفته بعملٍ كبير أعطيتَه إمكانات كبيرة، فأحد الأجوبة أن هذه القدرات الفائقة التي يتمتع بها هؤلاء العلماء الأعلام، في رأيٍ من الآراء؛ أنها نتيجة مطالبهم العالية التي علِم الله بها .
 وعندنا شيءٌ آخر: وهو أن هذا الذكاء، وقوة الحافظة، وحدّة الذهن، والإدراك العميق ، وقوّة التفكير, هذا حظٌّ من حظوظ الدنيا، والإنسان يُمتَحَن به، فإمّا أن يرقى به، وإمّا أن يهوي، فالجهاز الذي يرفعك هو نفسه الذي يهوي بك، الآن الطائرة مِيزةٌ كبيرة، لأنها تنتقل بسرعة عالية، لكن لو أنها تعطَّلت في الجو لم يكن ثمّة حلٌ وسطٌ، ولا وقت للنزول، ولا لمخاطبة الركاب بالذهاب إلى بيوتهم، حتى يتسنّى إصلاح الطائرة، لا يوجد هذا، فميزة تحليقها في الجو، ونقل الركاب بوقـت قصيـر جداً، في مقابلها سيئة إذا أصابها عطب، ويُنشَر الخبر البسيط: لقد مات جميع ركَّابها، وبتعبير آخر: وقد لقي جميع الركاب حتفهم، أما السيارة فتتعطَّل، وسرعتها أبطأ، لكن لو تعطَّلت لوُجِد لها حلّ آخر .
 أردت من هذا المثل؛ أن الإنسان إذا أُوتي الذكاء، والقدرات الفائقة، هذه ترقى به ولا شك، لكن لو أنه استخدمها على خلاف ما أراد الله عزَّ وجل لَهَوَتْ به، فالقدرات العالية كما أنها ترقى فإنها تُهلك، فمثلاً: يكون الشخصُ يسير بسيارة، وأغلب الظن أنْ لا مشلكة، فلو سار بسرعة مائة وعشرين، ثمّ سها سهوة، ماذا يحدث؟ أحياناً الإنسان يعطس وهو يقود السيارة، هذه العطسة فيها تغميض العينين ثانية واحدة، فيشعر بالخطر، لأنه يسير بسرعة كبيرة، فكلَّما أسرعت يجب أن تكون أكثر يقظةً ونباهةً، وكلُّ شيء فيه ميزة في مقابلها مغرم ، وكل مغنمٍ يقابله مغرم، فالذي أوتي حظاً من الذكاء, هذا امتُحِن بالذكاء، لكن فيما لو لم يؤمن بالله عزَّ وجل، لكان هذا الذكاء وبالاً عليه .
 وقد روي عنه أنه قال: ما كتبت سوداء في بيضاء قط, ماذا يعني هذا الكلام؟ أنه لشدة حافظته، لاتقاد ذهنه، لقوة ذاكرته, ما احتاج أن يكتب كلمةً سوداء على ورقةٍ بيضاء.
 قد يقول أحدكم: ما هذه الذاكرة؟ أنا أجيبكم: لو أنك تهتم بموضوعٍ ما، لوفِّقت إلى ذاكرةٍ كهذه الذاكرة، فأحياناً تدخل على بائع قطع تبديل، يكون عنده عشرة آلاف نوع، أي سؤال تطرحه عليه يقول لك: يوجد، أو بقي منها قطعة واحدة، اصعدْ يا ابني على الرفِّ الثالث، على اليمين هناك واحدة فأحضِرْهَا, معنى هذا أنّ ذاكرته محلّ، لأنه مهتم، ولأن في ذلك ربح له .
 فالذاكرة قانونُها الاهتمامُ، حينما تهتم بالشيء تحفظه، لذلك يشكو الإنسانُ ضعفَ ذاكرته في موضوعات لا يهتم لها، ويعتدّ بذاكرته التي لا تخطئ في الموضوعات التي يهتم بها، فأكاد أقول لكم: إن الاهتمام الشديد هو الذي يجعل الإنسان يحفظ .
 فمن شدّة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلَّم بكتاب الله، كان إذا نزل عليه يحفظه لأول مرة، مرة واحدة, وقد قال تعالى:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾

[سورة الأعلى الآية: 6-7]

 فما معنى: إلا ما شاء الله؟ أي إلا ما شاء الله لك أن تنساه، ولكن لماذا أنساه الله؟ لحكمةٍ بالغة، كي يشرِّع .
 مرَّة عليه الصلاة والسلام صلَّى الظهر ركعتين، كما روى ذلك البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ:

((صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ, قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ, فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا, وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ, وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ, فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْيَدَيْنِ, فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ, فقَالَ: بَلَى, قَدْ نَسِيتَ, فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ كَبَّرَ, فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ, ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ, فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في الصحيح]

 لو أنّ النبي عليه الصلاة والسلام لم ينس قط، فكيف سَيَسُنُّ لنا سجود السهو؟ هذا معنى قول الله عزَّ وجل:

﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾

[سورة الأعلى الآية: 6-7]

 قال الشعبي: (ما كتبت سوداء في بيضاء قط، ولا حدثني رجلٌ بحديثٍ إلا حفظته، ولا سمعت من امرئٍ كلاماً, ثم أحببت أن يعيده علي، -إنها قوة ذاكرة عجيبة- .
 وقد كان الفتى مولعاً بالعلم، -أيهما أصح مولَعاً أم مولَّعاً ؟ مولَع، إياكم أن تقولوا: مولَّع ، المولَّع في اللغة العربية هو الثور الأحمر، الصواب مولَع، قل: أنا مولعٌ بكذا، ولا تقل: مولَّعٌ بكذا- .
 وقد كان الفتى مولعاً بالعلم, مشغوفاً بالمعرفة، يبذل في سبيلهما النفس والنفيس، ويستسهل من أجلهما المصاعب، إذ كان يقول: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمةً واحدةً تنفعه فيما يستقبل من عمره، لرأيت أن سفره لم يضع .
 -الآن أكثركم بارك الله بكم يأتي من أماكن متعددة، طبعاً هناك أخوان بيتهم إلى جانب المسجد، وأخوان أبعد بالمهاجرين، بالشيخ محي الدين، بالعدوي، آخرون يأتون من الغوطة، ومن دوما، بل من محلات بعيدة- فيقول الشعبي: لو أن رجلاً سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمةً واحدةً تنفعه فيما يستقبل من عمره، لرأيت أن سفره لم يضع .
 -كلمة واحدة تتعلَّمها، تنفعك في حياتك، هذا الجهد الكبير الذي بذلته من أجلها لم يضع سُدًى، وأشرف عملٍ تفعله أن تطلب العلم، لأنك بالعلم تصل إلى الله، وبالعلم تصل إلى طاعته، وبالعلم تصل إلى القرب منه، وبالعلم توفَّق في أمورك الدنيويَّة، وبالعلم تسعد في بيتك، وبالعلم تسعد في عملك، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم .
 تأكد أنه ما مِن عملٍ أشرف عند الله عزَّ وجل من أن تطلب العلم, قال النبي:

((إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ))

 مرَّة ثانية وثالثة أقول لكم: كما أنه ينبغي أن تؤدي زكاة مالك ينبغي أن تؤدي زكاة وقتك، وزكاة المال تعني أن تنفق جزءاً منه في سبيل الله، وزكاة الوقت تعني أن تنفق جزءاً منه في طلب العلم، وحينما تؤدي زكاة وقتك يحفظ لك اللهُ عزَّ وجل وقتك، كما حفظ لك مالك.
 أحياناً يكون الإنسان يجمِّع محركًا، وينسى شيئًا يجب أن يضعه في أول الأمر، وقد قضى أربع ساعات، ثم يقول لك: القشرة نسيناها، فيرجع ليفُكَّه من أول، فاللهُ عزَّ وجل قادر أن يتلف لك عشرين ساعة من دون مبرر، فأحياناً تتوهَّم شيئًا فتجري تحاليل، واختبارات، ويظهر لك في الأخير أن لا شيء معك، دفعت أموالاً، وبذلت جهدًا، وتعطَّلت، وانتظرت .
 أحياناً يتعطَّل شيء بآلة عندك، فتبعث لتحضره من بلد آخر, فيأتيك ناقصًا فلا تشتغل ، واعلَمْ أن الله عزَّ وجل قادر على أن يضيّع لك عشرات الساعات، بل مئات الساعات بلا طائل، في موضوعات سخيفة جداً، ولا حول لك ولا قوة، لذلك كما أنه ينبغي أن تؤدي زكاة مالك، ينبغـي أن تؤدي زكاة وقتك، كما أن زكاة المال تحفظ المال من الضياع والإتلاف، فإنّ زكاة الوقت تحفظ وقتك من الهدر .
 إنّ الإنسان الموفَّق يقوم في وقت قصير بأعمال كبيرة جداً، يقول لك: لقد بارك الله له في وقته، فتجده موفَّقًا في كل أموره، وأعماله دائماً هادفة، ليس عنده محاولات فاشلة، ولا إحباط، ولا بعثرة، ولا ضياع في الوقت، مثلما قال بعض الصالحين: (هم في مساجدهم، واللهُ في حوائجهم)- .
 وقد بلغ من علمه أنه كان يقول: أقل شيءٍ تعلَّمته الشعرُ، ولو شئت لأنشدتكم منه شهراً دون أن أعيد شيئاً مما أنشدته، -ينشد الشعر شهرًا كاملاً دون أن يعيد شيئاً مما أنشده، وهذا أقل شيءٍ تعلَّمه .
 قال لي أحدهم: لو كنا مع رسول الله, والله لكان أحسن، قلت له: اشكر الله بأن جعلك في آخر الزمان، إذا الواحد منا اجتهاده ضعيف أو وسط، لوضعوه في شعبة الكسالى لكان الأول فيهم، ولو وضعوه مع الأوائل لكان آخرهم، فهؤلاء الصحابة الكرام قدَّموا شيئًا لا يصدِّقه العقل-.
 كانت تعقد للشعبي حلقةٌ في جامع الكوفة، فيلتفُّ الناسُ حوله زمراً زمرا، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أحياءٌ, يروحون ويغدون بين أظهر الناس .
 بل إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه سمعه ذات مرةٍ, يقصُّ على الناس أخبار المغازي، بخفاياها ودقائقها، فأصغى السمع، وأرهف سمعه، وقال: لقد شهدتُ بنفسي بعض ما يقصُّه بعيني، وسمعته بأذني، ومع ذلك فهو أروى منـي لما شهدت، لم يشهد الشعبي هذه الوقائع، ولكن سيدنا عبد الله شهدها، ومع ذلك قال : هذا التابعي أروى مني لما شهدتُ بعيني ، وسمعت بأذني .
 وشواهد سعة علم الشعبي, وحضور ذهنه غزيرةٌ وفيرة)، والحقيقة هناك آية قرآنية تقول:

﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾

[سورة فاطر الآية: 1]

 أحياناً ربنا عزَّ وجل يُري من آياته الدالة على عظمته، فيعطي إنسانًا قوة ذاكرة تفوق حدَّ الخيال، ويعطي إنسانًا آخر أحياناً قوة عضليَّة، يَحمِل لك بها أربعمائة كيلو، وهناك بعض الأخوة يحمل صندوق حديد أربعمائة كيلو، ويصعد به الدرج، وإنسان آخر يقول لك: حملت كيلو تفاح فانتابني ألمُ الظهر, قال تعالى:

﴿يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾

[سورة فاطر الآية: 1]

 لكن بالمناسبة، إذا افتخر الإنسان بقدرات آتاه الله إيَّاها، وكانت هذه القدرات غير علمية، فأيّ حيوان يفوق بقدراته الإنسانَ، وإذا قال الإنسان: أنا عندي دقة بالبصر، فالصقر يرى ثمانية أضعاف الإنسان، وإذا قال: أنا شمي مرهف، فإنّ بعض الكلاب تشمّ مليون ضعف ، فما في صفة ماديَّة في الإنسان إلا وفي المخلوقات ما يفوقه في هذه الصفة، إلا أنّ الإنسان ميّزه الله عزَّ وجل بالعلم والعقل .

عامر ينتصر للضعيف المغلوب على القوي الغالب :

 روى الشعبي عن نفسه, فقال: (أتاني رجلان يتفاخران؛ أحدهما من بني عامر، والآخر من بني أسد، وقد غلب العامريُّ صاحبَه، وعلا عليه، وأخذه من ثوبه، وجعل يجرُّه نحوي جرًّا، والأسدي مخذولٌ أمامه، ويقول له: دعني دعني، وهو يقول له: واللهِ لا أدَعُك حتى يحكم الشعبي لي عليك، فالتفتُّ إلى العامري, وقلت له: دع صاحبك حتى أحكم بينكما, ثم نظرت إلى الأسدي, وقلت: ما لي أراك تتخاذل له؟ لقد كانت لكم مفاخر ست لم تكن لأحدٍ من العرب، أولها: أنه كانت منكم امرأةٌ خطبها سيد الخلق محمد بن عبد الله، فزوَّجه الله إيَّاها من فوق سبع سموات، وكان السفير بينهما جبريل عليه السلام، إنها أم المؤمنين زينب بنت جحش, فكانت هذه المأثُرة لقومك ولم تكن لأحدٍ من العرب, قال: والثانية: أنه كان منكم رجلٌ من أهل الجنة، يمشي على الأرض, هو عكاشة بن محصِن, والثالثة ....., والرابعة: أن أول مغنمٍ قسم في الإسلام كان مغنمه، والخامسة: أن أول من بايع بيعة الرضوان كان منكم، فقد جاء صاحبكم أبو سنان بن وهبٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقال: يا رسول الله, ابسط يدك أبايعك, قال: على ماذا؟ قال: على ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: فتحٌ أو شهادة، قال: نعم، فبايعه فجعل الناس يبايعون على بيعة أبي سنان, والسادسة: أن قومك بني أسد كانوا سُبُعَ المهاجرين يوم بدر، فبهت العامري وسكت .
 -لا ريب أن الشعبي أراد أن ينتصر للضعيف المغلوب على القوي الغالب، وهذه حالات نادرة ذكرها الشعبي لهذين المتخاصمين، فإذا بالمنتصر يصغر، وإذا بالضعيف يكبُر-.
 بعضهم قال: ولو كان العامري هو المخذول, لذكر له من مآثر قومه, ما لم يحط به خُبْرَ) .

من هو الخليفة الذي قرب عامر إليه, وما مضمون رسالة ملك الروم بشأن عامر ؟

 لمَّا آلت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان, كتب إلى الحجَّاج عامله على العراق: (أن ابعث إليَّ رجلاً يصلح للدين والدنيا، أتخذه نديماً أو جليساً, فبعث إليه بالشعبي, فجعله من خاصَّته، وأخذ يفزع إلى علمه في المُعضلات .
 -الحقيقة: أنّ الإنسان إذا وُفِّق أنْ يستشير أولي العلم، فهذه نعمة كبيرة، لكن السؤال مفتاح العلم، ومن استشار الرجال استعار عقولهم .
 أنت يمكن أنْ تأخـذ خبرات خمسين سنة متراكمة بسؤال واحد، فعوِّد نفسك أن تستشير، فإنّ الله عزَّ وجل وصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وأمر النبي المعصوم الذي يوحى إليه أن يشاور أصحابه، فقال تعالى:

﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[سورة آل عمران الآية: 159]

 لا يوجد إنسان موفَّق إلا يستشير، وأحياناً يكون على الإنسان ضغط، والضغط يعمي ويصم، ولو أنك استشرتَ إنسانًا ليس عليه هذا الضغط, لأعطاك الرأي السديد، والرؤية الصحيحة، والفكر الثاقب، والسلوك الحكيم، فعوِّد نفسك أن تستشير ، ولو أن الذي تستشيره هو دونك، لكنه قد يتفوَّق في هذه النقطة، ولذلك أخرج الطبراني في الأوسط عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

((ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار))

 الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، والاستخارة لله عزَّ وجل، فعوِّد نفسك أن تستخير الله، وأن تستشير أولي الخبرة من المسلمين، والسؤال مفتاح العلم، وإنك بالاستشارة تستعير عقول الرجال- .
 فأخذ هذا الخليفة يفزع إلى علمه في المعضلات، ويعوِّل على رأيه في الملمَّات، ويبعثه سفيراً بينه وبيـن الملوك، فقد أرسله مرةً في مهمةٍ إلى جستنيان ملك الروم، فلما وفد عليه، واستمع إليه, أُخذ بذكائه، ودهش من دهائه، وأُعجِب بسعة اطلاعه، وقوة بيانه، فاستبقاه عنده أياماً كثيرة على غير عادته مع السفراء، فلما ألحَّ عليه بأن يأذن له بالعودة إلى دمشق سأله الملك الرومي: أمن أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا، إنما أنا رجلٌ من جملة المسلمين، فلما أذن له بالرحيل, قال له: إذا رجعت إلى صاحبك - يعني عبد الملك بن مروان - وأبلغته جميع ما يريد معرفته، فادفع إليه هذه الرُقعة، -أعطاه كتابًا مختومًا- .
 فلما عاد الشعبي إلى دمشق, بادر إلى لقاء عبد الملك، وأفضى إليه بكل ما رآه وسمعه، وأجابه عن جميع ما سأل عنه، ولما نهض لينصرف, قال: يا أمير المؤمنين, إن ملك الروم حمَّلني لك هذه الرُقعة، ودفعها إليه وانصرف، فلما قرأها عبد الملك, قال لغلمانه: ردوه عليَّ، فردوه، فقال له: أعلمت ما في هذه الرقعة؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فقال عبد الملك: لقد كتب إليَّ ملك الروم, يقول: عجبت للعرب كيف ملَّكت عليها رجلاً غير هذا الفتى؟! فبادره الشعبي قائلاً: إنما قال هذا: لأنه لم يرك، ولو رآك يا أمير المؤمنين لما قاله, فقال عبد الملك : أفتدري لمَ كتب إلي ملك الروم هذا؟ قال له: لا، قال عبد الملك: إنما كتب إليَّ بذلك, لأنه حسدني عليك، فأراد أن يغريني بقتلك, والتخلُّص منك, فبلغ ذلك ملك الروم, فقال: لله أبوه، واللهِ ما أردت غير ذلك) .
 الحقيقة أنّ الإنسان إذا وفَّقه اللهُ, فإنه يوفِّقه لاتخاذ أعوان مخلصين، أصحاب فطانة، يحسنون التصرُّف، فأحياناً تكون الآفة من الأعوان، والنبي دعا بالبطانة الصالحة التي تدلُّ على الخير، وتعين عليه، واستعاذ بالله من بطانة السوء التي تدلّ على الشر، وتعين عليه، والإنسان إذا اتّخذ صديقًا، أو اتخذ معينًا، إنْ كان مدير معمل، مدير دائرة، مدير مستشفى، مدير مدرسة، فيتخذ إنسانًا أخلاقه عالية، وذكيًا حصيفًا، وإلا فالمعين السيء يدمِّره .

 

المنزلة الذي توصل إليها عامر في العلم :

 لقد بلغ الشعبي في العلم منزلةً جعلته رابع ثلاثةٍ في عصره، فقد كان الزهري يقول: (العلماء أربعة؛ سعيد بن المسيِّب في المدينة، وعامر الشعبي في الكوفة، والحسن البصري في البصرة، ومكحولٌ في الشام) لكن الشعبي كان بتواضعه يخجل إذا ألبَسه أحد لقب العالِم، فقد خاطبه أحدهم قائلاً: (أجبني أيها الفقيه العالِم، قال: ويحك لا تُطْرِنَا بما ليس فينا، الفقيهُ من تورَّع عن محارم الله، والعالِمُ من خشيَ الله، وأين نحن من ذلك؟) .
 كان في الشام عالِم من العلماء، وهو الشيخ بدر الدين الحسني، هذا علَّم العلماء كلهم، وكان هذا العالم الجليل إذا غضب تغضب له كل البلاد، مرَّة سأله واحد فضولي, فقال له: سيدي لفَّتتك ليست بيضاء، أي لماذا لا تضع لفَّة بيضاء يا سيدي؟ فقال له: يا بني, هؤلاء الذين يضعون اللفة البيضاء علماء .
 وسأله مرة واحد: ما مذهبك؟ فقال له: يا بني, العوام لا مذهبَ لهم، العوام يقلدون تقليدًا، وليس لهم مذهب، لقد كان متواضعًا، حتى إنه لم يُصَلِّ بالناس أبداً، ولا سمح لأحد أن يقبِّل يده، ولو وزنته بالعلم, لكان سيد العلماء .
 كان مرَّة يمشي في الغوطة مع أخوانه, - هكذا سمعت -, فجاء شخص أرعن، أحمق، عدواني المزاج، والأرض طين، يركب بغلاً, ويبلِّل الناس بهذا الطين، وهم يقولون: على مهلك، على مهلك، أبداً, لم يستجب، حتى بلَّل الشيخ، فهؤلاء المريدون مؤدبون جداً، ولكن أحدَهم لم يتحمَّل الوضع، فأوجعه ضربًا حتى كاد يهلكه، فإذا سكتَ الشيخ فثمة مشكلة، وإن تكلَّم فمشكلة، فقال كلمة رائعة وذكية جداً، قال: ما أفلح قومٌ لا سفيه لهم، أي: هذا العمل سفاهة، لكنه ضروري، أحياناً تجد سفيهًا، لكنه لسفيه آخر دواء، قال: ما أفلح قومٌ لا سفيه لهم.
 في اللحظة التي تتوهَّم أنك عالِم, فأنت جاهل، فإذا تكلم الإنسانُ عن نفسه, فليقل: أنا طالب علم، أرجو من الله التوفيق .
 قيل لأحدهم: يا سيدي هذا الحديث الذي ذكرته موضوع، فقال له: لمجرَّد أني قلته فهو صحيح، هناك جبابرة في العلم .

انظر إلى أدب عامر إلى من هو أكبر منه في العلم :

 مرَّة سأله شخص عن مسألة فأجاب، فقال: (قال فيها عمر بن الخطاب كذا، وقال فيها: علي بن أبي طالب كذا، فقال له السائل: وأنت ماذا تقول يا أبا عمرو؟ فابتسم في استحياء، وقال: وما تصنع بقولي بعد أن سمعت مقالة عمر وعلي؟ من أنا حتى يعتدَّ برأيي ؟!) .
 وسيدنا الشافعي له كلمة رائعة أنه قال: (إذا وجدتم الحديث الصحيح يخالف قولي, فاضربوا بقولي عُرض الحائط) لو فرضنا أنّ للشافعي رأيًا، وعثرت على حديثٍ صحيح خلاف كلام الشافعي، فالشافعي نفسه قال لك: (اضرب بكلامي عرض الحائط) .

الصفات التي كان يتحلى بها عامر :

 كان الشعبي يكره المراء، ويتصاون عن الخوض فيما لا يعنيه، فقدْ كلَّمه أحد أصحابه ذات يومٍ, فقال:

((يا أبا عمرو، فقال: لبيك، قال: ماذا تقول فيما يتكلَّم فيه الناس من أمر هذين الرجلين؟ قال: أي الرجلين تعني؟ قال: عثمان وعلي، قال: إني –والله- لفي غنىً عن أن أجيء يوم القيامة خصيماً لعثمان بن عفَّان، أو لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما جميعاً))

 مَن أنا حتى أكون حكمًا بينهما؟ أنا غني عن أن أكون خصمًا لأحد هذين الصحابيين الكبيرين، والنبي قال:

((إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا))

 ولقد جمع الشعبي إلى العلم الحلم، فقد روي أن رجلاً شتمه أقبح الشتم، وأسمعه أقذع الكلام، فلم يزِدْ عن أن قال له: (إن كنت صادقاً فيما تقول: فغفر اللهُ لي، وإن كنت غير صادق, فغفر اللهُ لك) انتهى الأمر .
 لم يكن الشعبي على جلالة قدره، وجذالة فضله, يأنف أن يأخذ المعرفة، أو يتلقَّى الحكمة مِن أهونِ الناس شأناً، فلقد دَأَبَ أعرابيٌ على حضور مجالسه، غير أنه كان يلوذ بالصمت دائماً، فقال له الشعبي مرةً: (ألا تتكلَّم؟ فقال: اسكت فأسلم، واسمع فأعلم، وإن حظ المرء من أذنه, يعود عليه، أما حظه من لسانه, فيعود على غيره، فظل الشعبي يردِّد كلمة الأعرابي ما امتدَّت به الحياة) والمؤمن الصادق، لا يأنف أن يأخذ الحكمة مِن أي إنسان .
 أوتي الشعبي من بلاغة الكلام، وحسن التصرُّف ما لم يؤتَهُ إلا القلةُ النادرة من الفصحاء، فقد كلَّم مرةً أمير العراقَيْن عمرَ بن هبيرة الفزاري في جماعةٍ حبسهم، فقال: (أيها الأمير: إن كنت حبستهم بالباطل, فالحق يخرجهم، وإن كنت حبستهم بالحق, فالعفو يسعه) .
 هناك آية قرآنيَّة تحل ألف مشكلة, قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾

[سورة النحل الآية: 90]

 فإذا لم تتوافق القضيَّة على العدل, فإنَّ الإحسان يسعها، وإذا كان معك الحق, وأنت منصف، لكن الشخص يحتاج لإحسانك، فلا تبخل به عليه .
 وعلى الرغم من مروءة الشعبي، وعلو منزلته في الدين والعلم، فقد كان عذب الروح ، حلو المفاكهة، لا يفوِّت الطُرفة إذا لاحت له، روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلَّت عميت .
 دخل عليه رجل وهو جالسٌ مع امرأته, فقال: (أيكما الشعبي؟ فقال: هذه) .
 سأله مرة واحد: (مَن تكون زوجة إبليس؟ قال له: واللهِ هذا عرسٌ ما شهدته) .
 مرة قال: (والله ما حللتُ حبوتي إلى شيءٍ مما ينظر إليه الناس، ولا ضربتُ غلاماً لي قط، وما مات ذو قرابةٍ لي وعليه دينٌ, إلا قضيته عنه) .
 أخواننا الكرام, الشهيد يغفر له كل ذنب إلا الدين؛ شهادته، أدى ماله، أدى نفسه، أثمن ما يملك إلا الدَّين، عَنْ الحَارِثِ بْنِ رِبْعِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ, فَإِنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا, قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُوَ عَلَيَّ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْوَفَاءِ, قَالَ: بِالْوَفَاءِ, فَصَلَّى عَلَيْهِ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

 لأن الله عزَّ وجل يغفر ما كان بينه وبين العبد، لكن ما كان بين العباد, فلا بد من الأداء، لأنّ حقوق العباد مبنيةٌ على المشاححة، وحقوق الله مبنيةٌ على المسامحة .

كم هي الفترة التي عاش فيها عامر في الدنيا ؟

 عُمِّر الشعبي حتى نيَّف على الثمانين، وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَجُلًا, قَالَ:

((يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ, قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ))

[أخرجه الترمذي في سننه]

 فلما لبَّى نداء ربه، ونُعِيَ إلى الحسن البصري, قال: (يرحمه الله, فقد كان واسعَ العلم ، عظيمَ الحلم، وإنه من الإسلام بمكان) .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور